مفكرة سماح
"بيني وبينه مسافات ، وكوني سكرتيرته الخاصة لم يلغى هذه المسافات ولم
يحد منها ، ( الاحترام المتبادل ) المسافة الأولي التي تفصل بيننا ، هناك أيضا ( فارق السن ) ( معرفته بأهلي وظروفي ) ( تقدير زوجته لي ) تلك مسافات أخري لابد أن آخذها في اعتباري .
كل يوم من أيام العمل الجاد في مكتبه ، كنت أضيف مسافة جديدة فاصلة تكشفها لي الأحداث ، ولأنني بطبيعتي أحب التأمل واكتشاف الحقائق ، فإن تصرفاتي دائما تتم في ضوء الوعي الكامل ـ وهذه الصفة اعتبرتها مسافة إضافية ـ حتى بلغت المسافات التي استوعبتها ثمانية ، واليوم برقت المسافة التاسعة في ذهني وسوف أدونها حالا ..."
ـ ـ ـ
( سماح أرجو الحضور لمكتبي يا آنسة سماح ) أغلقت سماح مفكرتها التي تدون فيها يومياتها وأسرعت لمكتب ( أمين بك ) ، أخبرها أن هناك عملا هاما يقتضي سفرها معه غدا إلي( العريش) وأنه سوف ينتظرها في الصباح الباكر وعليها أن تحضر كل الأوراق اللازمة معها ، قالت سماح : لكن يا افندم أنت تعرف رأي والدي في مسألة السفر ، قال : لقد كلمت عبد التواب الآن واستأذنت لك منه ، نلتقي غدا إن شاء الله .
بعد انتهاء العمل في( العريش) سألها : أول زيارة لك لهذه المدينة ؟ قالت : نعم ، مدينة رائعة وأهلها مهذبون جدا وجوها مختلف ، قال مازال أمامنا وقتا لنتجول فيها فأنا أعرفها جيدا ولا بد أن تزوري السوق الشعبي سوف يعجبك ، كسر السفر الحاجز النفسي بينهما وجعلها تري في الرجل وجها لم تعرفه من قبل ، رأته لطيفا ضاحكا ذو شخصية جذابة ويعاملها بطريقة ساحرة آسرة ، لم تشعر بمرور الوقت معه وعادت لبيتها وهي تحمل حلمها بين جفونها وذاكرتها خالية إلا من أحداث وتفاصيل ذلك اليوم ، أما المسافات فقد صارت طيفا بعيدا غائم الملامح ، سألها أبيها عن رحلتها قالت : رحلة رائعة ، ابتسم عبد التواب وقال لزوجته : ألم أقل لك هذا الرجل محترم .
" فوجئت بما لم يكن في الحسبان ، اختصرت فجأة كل المسافات وانهارت الحدود والسدود وأصبحت ـ لدهشتي ـ زوجته العرفية أو السرية ، ولأنني لم أتخل عن تلك الصفة التي شرحتها من قبل ـ أي حب التأمل ـ فقد اكتشفت في ضوء واقعي الجديد ووعيي الناضج أن كل المسافات الفاصلة هي نفسها أسباب التقارب والتجاذب بيننا .
احترامه لي هو الذي دفعه للزواج بي ـ نعم ذلك أمر مؤكد ـ ( فارق السن ) هو الذي اجتذبه لي وبهرني به ، ( معرفته بأهلي وظروفي ) دفعته لإبقاء زواجنا في دائرة السرية ـ كما شرح لي ـ أما كونه زوجا ورب أسرة فأنا أتشكك الآن في احتساب تلك النقطة مسافة فاصلة ، فهو يرتاح في واحتي من هجير الزوجة التقليدية ....."
ـ ـ ـ
فجأة سمعت سماح ضجيجا جعلها تغلق مفكرتها ، ومنذ اللحظة الأولي ميزت أصواتا تعرفها حق المعرفة ، مادت الأرض تحت قدميها حين رأت والديها وزوجة أمين بك يقتحمون مكتبها وقد اختلطت أصواتهم وكان واضحا أن الغطاء الواهي قد طار وكل شيء قد عرف .
لاشيء يؤلم مثل الكلمات إنها أحد من السيف ، جاء أمين من مكتبه وفي لحظة أصبح كل من يحيط بهما أصابع اتهام منذرة وعيونا تقدح سخطا وغضبا وألسنة حداد تقطر أعنف الاتهامات ، شعرت سماح أنها قد سقطت في مستنقع يموج بطحالبه العفنة وبينما تصارع أمواجه وحدها ، برقت في ذهنها مرة أخري المسافة التاسعة التي كانت قد تنبهت إليها يوما ولم تتثبت منها تماما ، إنها ( الكرامة ) كرامتها وكرامة عائلتها وكرامة أبيها ذلك الرجل المسكين الذي اكتشفت فجأة أنه الضحية الأولي لما حدث ، وأنها قد أجهزت عليه تماما بقسوة باردة لم تعهدها في نفسها قط .
لم يفجر براكين غضبها وندمها نظرات زوجته المتعالية وهي تصف كيف ألقت حبائلها حول زوجها ، ولا بكاء أمها وعويلها علي سمعة ابنتها المهدرة وشبابها المسروق ومستقبلها العاثر ، ولكن الطعنة الحقيقية جاءت منه هو ( سعادة المدير ) الذي وصف علاقتهما أنها مجرد نزوة وعرض بعض المال لتسوية الأمر ، في تلك اللحظة نظر إليها أبيها نظرة اخترقت قلبها كانت نظرته تصرخ ، لماذا يا ابنتي قطعت عنق أبيك ؟؟
عندما تماثلت سماح للشفاء في المستشفي التي عولجت فيها من الصدمة العصبية ، فتحت مفكرتها لتختتم قصتها :
" لم أعد أعي شيئا فقد حجبت دموعي الرؤية ، ولكن من الداخل انكشفت أمامي تماما حقيقة الهاوية المغطاة ببعض أعشاب عطرة من معسول القول والتي انزلقت فيها ، وحين أفقت لنفسي رأيت الحقيقة بسيطة وحادة وشديدة الوضوح ، وتجلت أمامي المسافات والأبعاد الحقيقية ، وأدركت أن مسافة واحدة كانت تكفي إذا احترمناها ولم نخدع أنفسنا ونصبح كالفراشات الهائمة التي يجذبها اللهب بنوره وناره فتظل تدور حوله حتى تحترق .